لنتحاور… قبل نقطة اللاعودة/ سيدي ولد النمين

في زمنٍ تتسارع فيه التحولات الإقليمية والدولية على نحوٍ غير مسبوق، تقف بلادنا اليوم على  مفترق طرق بالغ الحساسية، فالمحيط الجغرافي الذي كان بالأمس القريب مجالاً لقدرٍ من الاستقرار النسبي، أضحى اليوم بؤرة توترٍ متصاعدة تنذر بانفجاراتٍ سياسية وأمنية قد تمتد نيرانها إلى ما وراء الحدود.

من مالي، حيث الحرب التي استعصت على الحسم، وتحولت إلى صراعٍ مفتوح على الهُويات والمصالح، إلى السنغال المجاورة التي تعيش على وقع أزمةٍ سياسية مرتقبة تُنذر بانقسامٍ داخلي خطير بين مؤسسة الحكم والمعارضة، وتتعقد أكثر بدعوات محاكمة الرئيس السابق ماكي صال وما يرافقها من شدٍّ وجذبٍ بين الرئيس الحالي ورئيس وزراءه، ثم إلى قضية الصحراء، التي أعادها القرار الأممي الأخير إلى واجهة المشهد الإقليمي بما تحمله من تداعياتٍ على التوازنات المغاربية ومستقبل الاستقرار في المنطقة.

إننا أمام خريطةٍ ملتهبةٍ على الأطراف، وتغيراتٍ جيوسياسيةٍ في قلب العالم تُعيد رسم معادلات النفوذ وتوزيع المصالح، دون أن يملك الضعفاء ترف الغفلة أو تأجيل الإصلاح.

في خضم هذا المشهد المضطرب، تبدو المعارضة الوطنية في حالةٍ من التيه البنيوي والتفكك الهيكلي.

معارضةٌ تتأرجح بين ضعفٍ ماديٍّ وتنظيميٍّ واضح، وتطرّفٍ سياسيٍّ لم يعد سدنته يخسرون شيئاً، حتى وصلوا حد العزف على أوتار اللحمة الاجتماعية وتغذية الهواجس الإثنية والفئوية تحت شعاراتٍ براقةٍ ظاهرها الإصلاح وباطنها التفكيك.

وفي غياب مشروعٍ وطنيٍّ جامع، تظل هذه المعارضة أسيرة ردة الفعل، لا تمتلك بوصلة واضحة ولا خطاباً يُقنع المواطن بقدرتها على أن تكون بديلاً رشيداً لا خصماً مدمّراً.

وعلى الجانب الآخر من المشهد السياسي الوطني، لا تبدو الأحزاب المحسوبة على الأغلبية الرئاسية في حالٍ أفضل، فهي وإن اتخذت موقعها في معسكر السلطة، إلا أنها تعاني من غياب التفاهم وضعف التنسيق، وتتنافس في ما بينها تنافساً غير شريف على المناصب والامتيازات والقرب من دوائر السلطة.

إنها تشكيلاتٌ سياسية تفتقر إلى مشروعٍ وطنيٍّ جامع، وتتحرك بلا بوصلةٍ فكريةٍ أو رؤيةٍ استراتيجية، لا يجمعها سوى الرغبة في البقاء داخل دائرة الضوء.

أحزاب تظهر بشكل موسمي، في المناسبات السياسية والزيارات الرئاسية لتملأ المشهد بالشعارات نفسها والعبارات التي أكل الدهر عليها وشرب، وتختفي عند أول اختبارٍ حقيقيٍّ يتطلب موقفاً أو مبادرة.

وهكذا تتحول الأحزاب من أدواتٍ للتأطير والتعبئة إلى عبءٍ على الدولة ومؤسساتها، تُفرغ العمل السياسي من محتواه وتزيد من فقدان الثقة العامة في جدوى الممارسة الديمقراطية.

تغيب هذه التشكيلات عن مواكبة العمل الحكومي الجاد وتبتعد أكثر فأكثر عن لعب دورها كأذرع سياسية أو إعلامية مواكبة للنظام الحاكم، على الرغم من رفع الحكومة لوتيرة العمل التنموي وإطلاق مشاريع هيكلية كبرى تتطلب المؤازرة والدعم والتأطير السياسي والإعلامي.

وقد جاء التوجه الرسمي الجديد بضرورة مكافحة الفساد بوصفه عنوان المرحلة، بعد النشر الجزئي والمحمود لتقارير محكمة الحسابات.
وهو التوجه الذي قوبل باستحسان الجميع إلا أنه يظل سلاحاً ذا حدّين.

فهو من جهة مطلبٌ شعبيٌّ مُلحّ وضرورةٌ وطنية لتطهير الحياة العامة من شوائبها، لكنه في المقابل يكشف خللاً بنيوياً عميقاً في منظومة الدولة، ويعيد إلى السطح سؤالاً مقلقاً: كيف تمكّن الفساد من أن يصبح جزءاً من النسيج الإداري والاقتصادي لعقودٍ طويلة دون أن يدقّ له ناقوس الخطر؟

إنّ مواجهة الفساد لا ينبغي أن تتحول إلى وسيلةٍ للاستعراض أو التصفية، بل إلى عمليةٍ مؤسسية شاملة تُعيد الثقة بين الدولة ومواطنيها وتؤسس لثقافة المساءلة الحقيقية، فالتطهير لا يكون بقطع الأغصان المريضة فحسب، بل بإصلاح الجذور التي أنتجت العفن.

وعلى واجهة المشهد العام،  تبدو المنظومة الإعلامية الوطنية، الحلقة الأضعف في معادلة الأمن الوطني الشامل.

إعلامٌ منهك، يعيش في زمنٍ مختلف عن زمن الأحداث، بعيد عن نبض الشارع وقلق المواطن، إعلامٌ ما زال يستهلك الخطاب الرسمي أكثر مما يُنتجه، ويُسهب في التهليل حيث يُفترض التحليل.

وفي المقابل، تتغوّل منصات التواصل الاجتماعي والإعلام البديل، حاملةً خطاباً متفلّتاً من الضوابط المهنية والأخلاقية، تصنع الوقائع وتُعيد تشكيل الوعي الجمعي بما يخدم أجنداتٍ خارجية أحياناً، أو نزعاتٍ تفكيكية داخلية في أحيانٍ أخرى.

إنّ امتلاك آلةٍ إعلاميةٍ وطنيةٍ فعالة لم يعد ترفاً سياسياً، بل ضرورةً وجودية لأي دولةٍ تطمح إلى البقاء في عصرٍ تحكمه الصورة والمعلومة والتأثير، فالإعلام اليوم ليس مرآةً للأحداث فقط، بل أحد صانعيها.

ولأن الطبيعة لا تقبل الفراغ ومن دون خطابٍ وطنيٍّ عقلانيٍّ قادرٍ على مخاطبة الداخل بلغة الثقة والخارج بلغة الندية، سيظلّ المجال مفتوحاً أمام الفوضى الإعلامية لتملأ الحيز العام بخطاباتٍ موجهة ومضللة.

إنّ بناء إعلامٍ وطنيٍّ قويٍّ، مؤسسيٍّ ومهنيٍّ، هو شرطٌ من شروط صون الأمن القومي، لا يقلّ أهمية عن الجيوش والاقتصاد والسياسة.

كل هذه المؤشرات، إذا ما قُرئت في ضوء الدراسات والتحليلات الإقليمية التي شرعت بعض الجهات في استصدارها مؤخراً، تُنبئ بخطورة اللحظة الراهنة.

فالبلاد التي ظلت استثناءً في محيطٍ مضطرب، تنعم بأمنٍ نسبيٍّ واستقرارٍ سياسيٍّ محسود، تجد نفسها اليوم على حافة تحوّلاتٍ كبرى، فبين استحقاقات الداخل وضغوط الخارج، وبين آمال الثراء القادم من الاستكشافات المعدنية والغازية ومخاطر سوء تدبيره، قد تتكوّن المعادلة التي تضعنا أمام “نقطة اللاعودة” إن لم يُلتفت إلى بوادر الإنذار مبكراً.

على الساسة وحملة الرأي وصناعه وأهل العقول الراجحة أن تلبي نداء الحوار الذي دعا له رئيس الجمهورية -بطلاً غير مكره- حتى تبنى القرارات المستقبلية على بصيرة وحكمة بعيدا عن أمزجة الترف السياسي أو الحسابات الضيقة، فالتاريخ لا يرحم من استهان بإشارات الخطر، ولا يُنذر مرتين! المطلوب إصغاءٌ عميق لصوت العقل، وتوافقٌ وطنيٌّ صادق قبل أن تُغلق النوافذ، ويصبح الإصلاح ترفاً مؤجلاً في وطنٍ لم يعد يحتمل التأجيل.

فحذار من نقطة اللاعودة.

 

j