في لحظةٍ تتزايد فيها الحاجة إلى تعزيز الثقة بالذات الوطنية، جاء توجيه فخامة رئيس الجمهورية، السيد محمد ولد الشيخ الغزواني، بتشجيع المواطنين على قضاء عطلهم الصيفية داخل البلاد، كتعبير صامت لكنه عميق، عن توجه يحمل في طياته رؤية تنموية متكاملة. فرغم بساطة المظهر، فإن هذا التوجيه يعكس دعوة للتفكير في خياراتنا اليومية، ومراجعة علاقتنا بفضائنا الوطني، من خلال تشجيع ثقافة الاكتشاف الداخلي، والانفتاح على ما يزخر به الوطن من فرص ومقدرات ومواقع جذب قد لا تقل — في نظر من ينظر بعين الانتماء — عن تلك التي توجد وراء الحدود.
في هذا السياق، تبرز السياحة الداخلية كأحد القطاعات التي لطالما وُصفت بالواعدة، لكنها لم تنل ما تستحقه من عناية وتثمين. ويمثل هذا التوجيه دعوة غير مباشرة لإعادة الاعتبار لهذا القطاع، من خلال تحفيز الطلب المحلي، وخلق ديناميكية جديدة تعيد الثقة إلى المرافق والخدمات، وتشجع على تطويرها بما يجعل من العطلة المحلية تجربة مكتملة ومشرفة.
اقتصاديًا، يحمل هذا التوجه بُعدًا مهمًا يتعلق بتقليص الاعتماد على الوجهات الخارجية، بما يصاحبه من كُلف مالية واستنزاف للعملة الصعبة. وحين تتحول العطلة إلى خيار وطني مدروس، فإنها تنعكس إيجابًا على الاقتصاد المحلي، عبر تنشيط قطاعات خدمية ومجتمعية، وتوزيع فرص الدخل بشكل أوسع، وفتح المجال أمام ديناميات اقتصادية أكثر اتساعًا وشمولًا.
ومن هذا المنطلق، فإن القطاع الخاص مدعو إلى أن يكون في صميم هذا التحول، من خلال استثمارات نوعية في البنية السياحية والخدمية، تُواكب تطلعات المواطن وتنسجم مع رؤية التنمية المستدامة، وتُضفي على الفضاء الداخلي مزيدًا من الجاذبية والتنافسية.
ولكي لا يظل هذا التوجه حبيس موسمية ظرفية، فإن ترسيخه يقتضي أن يتحول إلى خيار ثقافي متجذر، يجد مكانه في العادات اليومية، ويترسخ في وعي الأفراد كامتداد طبيعي للانتماء والاعتزاز بالوطن. كما أن قضاء العطلة في رحاب الوطن يُسهم، بشكل تلقائي، في غرس قيم التعرف والانتماء لدى الأطفال، ويمدّ جسورًا هادئة بين الأجيال وذاكرة المكان. وهنا تحديدًا تتجلى قيمة هذا التوجيه، الذي يدعو بلغة هادئة وبعيدة عن الإلزام، إلى إعادة النظر في نظرتنا للداخل، باعتباره مجالًا حيًّا للفرص وليس مجرد بديل اضطراري.
ومن المهم التذكير بأن تشجيع السياحة الداخلية ليس مسؤولية قطاع دون آخر، بل هو جهد جماعي يتقاسمه الجميع: الدولة بمؤسساتها، والمواطن بقناعاته، والقطاع الخاص بمبادراته. فالنجاح هنا ليس مرهونًا بتعليمات عليا فقط، بل بقدرتنا كمجتمع على التفاعل الواعي مع ما يخدمنا جميعًا ويُعزز رصيدنا الوطني المشترك.
أما على المستوى الرمزي، فإن ما يقوم به القادة من تبني لهذا الخيار يُعد رسالة معنوية بالغة الأثر، توصل إلى المواطن أن الانتماء لا يُعبَّر عنه فقط بالخطب والشعارات، بل يُجسَّد كذلك في أبسط السلوكيات وأكثرها عفوية، كاختيار مكان قضاء العطلة.
وفي هذا الإطار، فإن الإعلام والفاعلين السياسيين معنيون بمواكبة هذا التوجه بروح من المسؤولية والانفتاح، بعيدًا عن الحسابات الضيقة، وبما ينسجم مع المصلحة العامة ويُكرّس قيم الإجماع حول ما هو نافع للبلد والمجتمع.
ولأن الاستمرارية هي التحدي الأكبر، فإن ترسيخ هذا المسار يظل رهينًا بتلاقي الإرادات وتكامل الجهود. فحين تلتقي السياسات العامة بالمبادرات المجتمعية، وتسند باستثمارات فاعلة من القطاع الخاص، تصبح الفكرة ممارسة يومية، يجد المواطن أثرها في تفاصيل حياته، ويلمس جدواها على أرض الواقع.
وفي الختام، فإن هذا التوجيه لا يُختزل في بُعده السياحي، بل يعكس رؤية أعمق لإعادة الاعتبار للداخل، وتفعيل الدور التنموي للمواطن في محيطه القريب. إنه طرح هادئ في ظاهره، لكنه عميق في مراميه، ينبع من نظرة استراتيجية تهدف إلى ترسيخ الثقة بالوطن، وتعزيز الانتماء من خلال اختيارات بسيطة ولكنها مؤثرة. ومن هذا المنظور، ينبغي أن يُفهم هذا التوجيه، وأن يُواكَب بما تيسّر من جهود على مستوى الجهاز التنفيذي، كلٌّ من موقعه، حتى يتحول إلى خيار راسخ يجد صداه في وعي المجتمع وسلوكه